حروب أوباما الناعمة من صناعة الإذعان إلى القوة الذكية

أمين علوي

في 13 من يناير/ كانون الثاني 2009 أعلنت هيلاري كلينتون مشروعها لقيادة الدبلوماسية الأمريكية أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخبتصريح تقول فيه: «علينا أن نعتمد على ما يسمى بالقوة الذكية أي كل الوسائل والأدوات التي نملكها (الدبلوماسية، الاقتصادية، العسكرية، السياسية، القانونية، الثقافية) باستخدام كل أداة على حدة أو بدمجها كلها، بفضل القوة الذكية ستصبح الدبلوماسية في طليعة السياسة الخارجية ».

 

بعد هذا الإعلان تلقفت المراكز البحثية والجامعات مصطلح  «القوة الذكية» (Smart Power) كعنوان جديد للعقيدة الدبلوماسية لعهد أوباما.

 

حاولت تلك المؤسسات الأكاديمية تفسير هذه العقيدة الجديدة برغبة الحزب الديموقراطي في تبني نهج جديد للتعاطي مع الشأن الدولي لإعادة البريق لصورة الولايات المتحدة الأمريكية، التي تأثرت بسياسات جورج دابليو بوش وفريقه الرئاسي الذي قاد السياسات الخارجية الأمريكية بلغة عسكرية حديدية (Hard Power) استفزت الرأي العام العالمي وأحرجت بعض الحلفاء.

 

لكن التدقيق في تاريخ السياسات الأمريكية وتصريحات قادتها يثبت أن مفهوم «القوة الذكية» كان حاضرا في الممارسة وأن لم يكن معروفا بهذا الاسم، ولعل أبلغ دليل على ذلك هو هذا التصريح لأوباما نفسه في خطابه الشهير بجامعة القاهرة في 4 يونيو 2009:

 

«وفي الحقيقة فإننا نستذكر كلمات أحد كبار رؤسائنا توماس جيفرسون الذي قال “انني أتمنى أن تنمو حكمتنا بقدر ما تنمو قوتنا وأن تعلمنا هذه الحكمة درسا مفاده أن القوة ستزداد عظمة كلما قل استخدامها»، يوجد بين ثنايا استشهاد أوباما بكلام جيفرسون اعتراف بانتساب القوة الذكية لتقليد سياسي قديم يفصح عن حقيقة خطابه الناعم الذي بشر فيه بعلاقات جديدة بين الولايات المتحدة الأمريكية والعالم الإسلامي.

 

ـ الواقعية السياسية (ReelPolitik)

 

إن الحاجة المرحلية لتغليب الدبلوماسية لم تكن طفرة في سياسات البيت الأبيض أو مذهبا سياسيا جديدا اكتشفه الحزب الديموقراطي، بل مجرد امتداد تاريخي لبراغماتية مدارس الأدب السياسي الأوروبية منذ بوتيرو وميكيافيلي، الذي يقول بضرورة ضبط التوازن بين الوسائل الناعمة وأدوات القوة لكسب الإذعان النفسي والثقافي للجماهير وتحقيق الانتصارات بأقل التكاليف.

 

يقول ميكيافيلي في الفصل 18 من كتاب الأمير: «ويجب أن تعلم أن هناك طريقتين للقتال، واحدة لها قواعد وقوانين والأخرى تعتمد على القوة فقط، الطريقة الأولى للبشر، أما الثانية فللحيوانات المفترسة، ولما كانت الأولى غير كافية في أغلب الأحوال، فإن المرء كان يلجأ غالبا للطريقة الثانية، ولهذا فمن الضروري للأمير أن يعرف حق المعرفة كيف يستخدم كلتا الطريقتين، وقد علم الكتّاب القدامى أمراءهم ذلك وأوحوا لهم به».

 

توارثت أجيال من ساسة أوروبا تطبيقات هذا المفهوم «المصلحي»للعلاقات الدولية بأسماء مختلفة مثل «المصلحة العليا للدولة» في حرب الثلاثين عاما (1618-1648) حينما ساندت فرنسا بقيادة الكردينال الكاثوليكي ريشيليو طائفة البروتستانت في حربهم ضد الكاثوليك، ثم عاد ذات المفهوم ليظهر في القرن التاسع عشر باسم الواقعية السياسية (ReelPolitik)، التي انتهجها المستشار الألماني اوتو فون بيسمارك لبناء تحالفات براغماتية مهدت لإنشاء الامبراطورية الألمانية.

 

عقب هذه المرحلة تخلت ألمانيا عن مسلك بيسمارك وانتهجت سياسات عدوانية (Weltpolitik) في علاقاتها مع الإمبراطوريات الأوروبية المجاورة رغبة في تحصيل نصيب أكبر من المستعمرات، وهي احدى العوامل التي يعدها المؤرخون ضمن الأسباب الرئيسية للحرب العالمية الأولى.

 

 

بعد اندلاع الحرب بين القوى الأوروبية قدمت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها كمسير جديد لقواعد العلاقات الدولية بعد نجاح الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون في بعث براغماتية بيسمارك بلعب دور الوسيط بين الفرقاء والاستفادة من أخطائهم السياسية وتحويلها إلى صالح القوة الأمريكية المتصاعدة، من المؤكدأن الانعزال السياسي الذي اتبعه ويلسون في بداية الحرب قد جنب أمريكا الخسائر وأكسبها كثير من النجاحات الصناعية والتجارية والمالية، لكن قرار دخوله الحرب في أخر مراحلها قد ضمن له ما هو أكبر من تلك المكاسب المادية فقد حضي بشرف المنتصر وغنم قيادة اتفاقيات السلام وصياغة المبادئ التي تقوم عليها فكانت تلك أولى خطوات تصدر الولايات المتحدة الأمريكية لقيادة العالم.

 

عرض ويلسون في مجلس الشيوخ برنامجه المكون من اربعة عشر بندا لإيقاف الحرب العالمية الأولى وإعادة بناء العلاقات الدولية، بما يتناسب ومشروع الهيمنة الأمريكية وهو ما يتضح بجلاء في تركيبتها التي يمكن أن نقسمها إلى طرفي نقيض; فكل البنود التي تتعلق بمصالح أمريكا التجارية ورؤيتها الجيوسياسية ذكرت مفصلة وواضحة لا تخضع للتأويل (قضايا ترسيم الحدود بين الإمبراطوريات القديمة وحرية الملاحة البحرية وإلغاء الحواجز الاقتصادية)، في حين صيغت البنود المتعلقة بمصالح الدول الأخرى بشكل فضفاض يحتمل التأويل ومن المؤكد أن من يملك القوة على الأرض هو الذي يؤول نصوص القانون المطاطية برؤيتهالخاصة، وقد حدث ذلك بشكل فعلي حينما تأسست عصبة الأمم (1919)، التي كانت ضمن بنود ويلسون ومنظمة الأمم المتحدة في مرحلة لاحقة (1945).

 

لم يكن للميكيافيلية التي حكمت سياسات ويلسون أن تنجح في تحقيق تفوق سريع تخطى ما حصلت عليه الإمبراطوريات الأوروبية في قرون لولا اعتمادها على «عقلنة» حقل الدبلوماسية وقياس نجاحاتها بحجم تأثيرها الفعلي في العلاقات الدولية ومدى قدرتها على كسب تعاطف الرأي العام الداخلي والعالمي.

 

قبل اختيار ويلسون لإعلان مشاركة بلاده في الحرب الدائرة في أوروبا أقدم على تهيئة الرأي العام الأمريكي لقبول تخليه عن مبدأ الحياد في الشؤون الأوروبية (مبدأ مونرو)، وأنشأ من أجل ذلك أول مؤسسة لـ «البروباكاندا التطبيقية»، في التاريخ الحديث تحت اسم لجنة كريل وضمت خيرة الاخصائيين النفسيين من بينهم ابن اخت فرويد (ايدوارد بيرنايز)، وخبراء في مجالات علوم الاتصال مثل والتر ليبمان وجورج كريل،وعملت هذه المجموعة على تطوير أساليب ملتوية لتطويع الجماهير، وبعد ستة أشهر من بروباكاندا التهييج فوجئت اللجنة بنتائج مبهرة تفوق التوقعات إذ انقلب الرأي العام الأمريكي من رافض للحرب إلى المطالبة بها بشكل هيستيري.

 

حملت هذه الحملة الناجحة بوادر ما أسماه والترليبمان «صناعة الإذعان» وأطلقت أولى مصانع الدبلوماسية الضخمة التي تنتج باستمرار القوالب الثقافية والآليات القانونية والحقوقية المسؤولة عن صعود النجم الأمريكي.

 

من بين تلك المصانع الضخمة ظهرت السينما بنمطها التايلوري مع أول فيلم لويندسور ماكين، غرق لوزيتانياكمساهمة واضحة في حملات العلاقات العامة، التي أدارتها لجنة كريل، تبعته بعد ذلك سلسلة من الإنتاجات الهوليودية التي انتشرت عبر العالم بشكل سريع ونشرت معها القيم والتصورات السياسية والايديولوجية لصانعي القرار الأمريكي.

 

وظهرت أيضا عصبة الأمم التي تأسست بدعوة من الرئيس ويلسون كنواة لما عرف فيما بعد بالأمم المتحدة وتناسلت من رحمها آلاف المنظمات الحقوقية والمؤسسات غير الحكومية، التي بررت طيلة القرن العشرين الرؤى الأمريكية التوسعية وضمنت لها أسباب القوة عبر التأثير الناعم في فترات السلم والحرب.

 

لنعد قليلا إلى مفهوم القوة الذكية ولنبدأ من الشق الثاني من المصطلح (ذكية) أصبحت هذه الكلمة كثيرة التداول في عهد أوباما في مجالات عسكرية (قنابل ذكية) واقتصادية (هواتف ذكية، مشروع كوكب أكثر ذكاء…) بالتوازي مع تزايد استخدام مفهوم «القوة الذكية» في العلاقات الدولية.

لقد تناغم استخدام المجالات الثلاث لصفة ذكية في إطار استراتيجية تسويقية موحدة تعتمد استخدام أسماء جديدة لمسميات قديمة لإيهام المتلقي بالتغيير، ومن المعلوم أن وهم التغيير يعيدنا إلى ما نصح به ميكيافيلي للأمير من أجل إبقاء الجماهير تحت السيطرة المستمرة، فالقنابل الذكية مثلا ظهرت منذ حرب الفييتنام وإن لم تكن معروفة بهذه الصفة، وكذلك أول الهواتف الذكية قد ظهر سنة 1992 أي قبل استخدام شركة أبل لهذا الاسم بسنين.

ذلك هو ذات المسار الذي اتخذته القوة الذكية، تظهر وتختفي بأسماء مختلفة كلما دعت الضرورة في دورة ميكانيكية تشبه تعاقب الفصول، لتطل مرة أخرى بعد حرب بوش ضد الإرهاب، كما أطلت من قبل بعد نهاية كل حرب من حروب القرن العشرين (الحرب العالمية الأولى ثم الثانية فالباردة) فتقوم مقام حقن التخدير التي تمنع الأمم المستهدفة من الانتفاض من ألم الحرب وتنسيهم بواعثها، فتترك للساسة هدوء المرحلة لرسم ملامح الحرب القادمة.

 

إن عودة هذا المفهوم للظهور باسم جديد بعد «الحرب على الإرهاب»، قد أثنى كثيرا من الباحثين عن المقارنة بين مرحلة أوباما ومرحلة ما بعد الحرب العالمية الاولى، لكن تشابه الأساليب المستخدمة وتطابق الظروف الدولية للمرحلتين خاصة منها تلك التي تتعلق بالعالم العربي والإسلامي تجعلها نموذجا مثاليا للدراسة من أجل استشراف ما قد ينتج عنها من تحولات جيوسياسية.

 

قاد ويلسون مشروع تفكيك الإمبراطوريات «الشرقية» ومن بينها الإمبراطورية العثمانية بشعارات فضفاضة وضعها ضمن مبادئ السلام الأربعة عشر، فكان شعار حق تقرير المصير مبررا قانونيا لشرعنة تقسيم تركة «الرجل المريض»إلى دول قومية، بعد أن مهد لذلك حلفاءه البريطانيون بتحريض العرب على التمرد ضد العثمانيين فيما عرف آن ذاك بـ«الثورة العربية الكبرى» بقيادة ضابط المخابرات البريطانية توماس إدوارد لورنس (لورانس العرب).

من المثير أن يتشابه هذا الوضع مع وضع العالم في فترة حكم باراك أوباما لكن هذه المرة كان التقسيم موجها ضد الدول العربية وكانت تركيا الحديثة حليفا لأوباما. أعلن هذا الأخير ترشيحه لولاية ثانية في 4 أبريل/ نيسان من سنة2011 لتظهر الشاشات بعد شهر من ترشيحه صورا قيل إنها لعملية قتل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، ليحظى بشرف انهاء مرحلة «الحرب على الإرهاب الدولي»، بنفس الطريقة التي حظي بها ويلسون بشرف انهاء الحرب العالمية الأولى.

 

من نقاط التشابه الواضحة أيضا بين المثالين، تزامن فترة حكم أوباما مع اندلاع ثورات داخل العالم العربي، انطلقت ثورات ما يسمى بالربيع العربي2010 في السنة التي تلت تولي أوباما للرئاسة 2009، وقد تم في شهر يونيو من سنة 1916 ترشيح الحزب الديموقراطي للرئيس وودرو ويلسون لولاية ثانية وفي الشهر ذاته من نفس السنة انطلقت «الثورة العربية الكبرى»،وتساقطت أطراف الإمبراطورية تباعا في معارك ضد الثوار لتسيطر الدول الحليفة لأمريكا آنذاك على المناطق المنفصلة ورسٌمت حدودها بموجب خرائط اتفاقية سايكس بيكو الاستعمارية.

 

وفي عهد أوباما أيضا تساقطت عديد من الدول العربية بشكل تراتبي سريع كقطع الدومينو بعد أن تحالف الثوار مع تركيا و فرنسا وبريطانيا ومن خلفهم الولايات المتحدة الأمريكية، فظهرت بعدها مباشرة بوادر التقسيمفي العديد من الدول التي نجحت فيها الثورات تحت شعارات فضفاضة خرجت من رحم خطاب أوباما في القاهرة (2009) مثل الحرية الدينية وحق تقرير المصير.

شعارات تنطق بلغة التقسيم على أساس طائفي وإثني بشرت به خرائط البنتاغون لما يسميه البيت الأبيض بمشروع الشرق الأوسط الجديد.

 

اشترك باراك أوباما مع ويلسون أيضا في حصولهما على جائزة نوبل للسلام التي ساهمت في صنع هالة من التعفف عن العمل العسكري، أخفت الكثير من العمليات العسكرية المباشرة في أمريكا الوسطى والكرايبي وروسيا وأوروبا.

 

اعتمد فريق أوباما على إحاطة الرئيس الأمريكي بهالة دبلوماسية بدأت بحصوله على جائزة نوبل للسلام بعد تسعة أشهر فقط من توليه الحكم وهو ما يدل على محاكاة لنموذج ويلسون الذي حاز هو الأخر على جائزة نوبل بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى مباشرة مما ساعده وقتها على التغطية على جرائمه العسكرية التي ارتكبها في هايتي ونيكاراغوا وروسيا.

استطاعت قوة الدبلوماسية الناعمة (Soft Power) كما يسميها جوزيف ناي،أن تجعل ابتسامة أوباما و «رحلاته الإنسانية» في افريقيا (2013) غطاء للجرائم العسكرية (Hard Power) التي اقترفها الجيش الأمريكي خلال ولايته في افغانستان وباكستان واليمن وليبيا… وقد ساعد على هذا التمويه مزج هذه الحملة الناعمة بأساليب عسكرية ذكية مثل الاعتماد على قوة عسكرية جديدة (أفريكوم) لإدارة الحرب بسرية تامة في القارة الإفريقية كانت أولى عملياتها المعلنة في ليبيا تحت اسم «فجر الأوديسا»مارس/ آذار 2011،  خلال هذه العملية ظهرت ثلاثة أساليب وليدة الشق العسكري للقوة الذكية:

  • القيام بعمل عسكري برفقة الحلفاء بعد استصدار قرار أممي يشرعن ذلك (قرار مجلس الأمن الدولي رقم1973.
  • قيادة العمليات من وراء الحلفاء (Leadingfrombehind) استخدمت لاخفاء عن الرأي العام الداخلي والخارجي تحكمهم بقيادة الحرب.
  • اتباع استراتيجية «بصمة القدم الخفيفة» (light footprint) وتتكون من ثلاثة أجنحة (فرق الكوموندوز الخاصة، الحرب الرقمية، استخدام طائرات الدرون بدون طيار)، والهدف منها تقليص نفقات الجيش وطمأنة الرأي العام الأمريكي الداخلي بعدم ارسال ابنائه للحرب، والتخفيف من صورة الهيمنة الأمريكية لدى الرأي العام العالمي.

لم يكتشف فريق أوباما أيا من تلك الأساليب «الذكية» لحروب الظل بل ورثها كلها عن مرحلة بوش الابن، حيث انبرت بعد حرب العراق الأخيرة (2003) مراكز الأبحاث والدراسات المتعاونة مع الجيش الأمريكي تمهيدا للمرحلة القادمة بوضع نظريات جيو سياسية واستراتيجيات إعلامية ومشاريع ثقافية وتعليمية ودراسات تقنية واسقاطات مالية لميزانية عصر القوة الذكية.

 

ـ الدبلوماسية العامة

أثبت سدنة البيت الأبيض عبر التاريخ أن المصالح العليا لإمبراطوريات المال أكبر من الأحزاب التي تدير الدولة ظاهريا.

يقول رئيس التحرير سابقا لمجلة العلاقات الخارجية الأمريكية فريد زكريا بأن «أب الدستور الأمريكي جيمس مادسون لم يكن يثق في الأحزاب وكان يعتبرها خطرا على الجمهورية الفتية».

 

ترك ماديسون قاعدة في الاتفاقية الدستورية يقول فيها: «يجب أن تستخدم سلطة الدولة من أجل حماية الأقلية الغنية ضد الغالبية الفقيرة»، هذه هي المبادئ الأساسية التي تحولت في عهد الرئيس ويلسون إلى مؤسسات تلعب دور كلب الحراسة في دفاعها عن مشاريع مموليها.

«كلب الحراسة» تعبير اختارته نائبة مساعد وزيرة الخارجية لشؤون المنظمات الدولية سابقا، سوزان نوسيل في دراسة قدمتها لمجلس العلاقات الخارجية لوصف المؤسسات التي تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية من تطويعها لخدمة مصالحها الجيوسياسية وقد توقفت في تلك الدراسة عند مثال انضمام الولايات المتحدة خلال ولاية أوباما الأولى (2009) إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة وأبرزت نجاح تلك الخطوة في التأثير على معايير حقوق الإنسان الأممية وتحويلها لصالح السياسات الأمريكية.

 

برزت سوزان نوسيل منذ خمسة عشر سنة كأحد أهمخبراء التضليل (Spin Doctors)فقد حظيت هذه الأخيرة بمناصب إعلامية هامة وحساسة، كمنصب نائب الرئيس لتطوير الأعمال في شركة برتلسمان للإعلام ونائب الرئيس للاستراتيجية والعمليات لصحيفة وول ستريت دجورنال ومستشار وسائل الإعلام والترفيه في شركة ماكينزي آند كومبان، لكن أخطر ما يمكن اكتشافه في مسارها كان سنة 2004 حينما نشرت في مجلة العلاقات الخارجية مقالا بعنوان «القوة الذكية»، كان هذا المقال بمثابة وثيقة تاريخية تعلن عن التوجه الجديد لحكومة الظل[1] بعد انتهائها من اسقاط العراق[2] وقد ضمنته كل أسس التوجهات المستقبلية للدبلوماسية العامة[3] التي ساهمت فيها بنفسها في مرحلة لاحقة كعراب لسياسات عهد أوباما لدى منظمات حقوق الإنسان حيث تولت منصب مديرة تنفيذية لمنظمة العفو الدولية من شهر يناير/كانون الثاني 2012 إلى شهر يناير/كانون الثاني من عام 2013 وهو ما يوافق توقيت بداية وانتهاء المرحلة الانتقالية للولاية الرئاسية الثانية لأوباما.

استطاعت «نوسيل» خلال هذه الفترة أن تحافظ على الغطاء الحقوقي الذي يضمن للولايات المتحدة الأمريكية قيادة مشروعها عبر ما يعرف بالدبلوماسية متعددة الاطراف[4].

 

عند تتبع مسار نظرية “القوة الذكية” التي أعلنت عنها نوسيل نجد الكثير من الأدلة على عمق التعاون البراغماتي بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي في تطبيق المشاريع الثابتة لصناع القرار الأمريكي، فقد عمل الفريقان على تطوير هذا المفهوم داخل مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية[5] عبر مجموعة بحثية سميت بـ «لجنة القوة الذكية»، تحت إشراف عميد معهد كينيدي بجامعة هارفارد جوزيف ناي ممثلا عن الديموقراطيين ونائب وزير الخارجية في حكومة جورج بوش الابن ريتشارد إرميتاج ممثلا عن الجمهوريين. أصدرت هذه اللجنة تقرير[6] سنة 2007 بعنوان “أمريكا، أكثر ذكاءوأكثر أمنا”. وهو ترجمة لرؤية مشتركة حول شكل الدبلوماسية التي ستتبناها الحكومة المستقبلية.

رغم الغطاء العلمي الذي حاول أن يظهر به مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية منذ إنشائه في ستينيات القرن العشرين إلا أن تقاريره ومنشوراته تحمل الكثير من التحيز الايديولوجي و إن اعتمدت لغة الأرقام في رصد الظواهر الجيوسياسية، فهو واحد من سلسلة خلايا التفكير التي تصمم بروباكاندا السياسات الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية وتتعاون فيما بينها لفرض التوجهات الايديولوجية والسياسية للوبي المال والأعمال الذي يديرها، كما أن خبراءها المعتمدين ومن يقودون سياساتها البحثية يشكلون فريقا ينتقل بينها بسلاسة لضمان تناغم سياساتها فتجد جنبا إلى جنب سياسيين وعسكريين وديبلوماسيين وخبراء إعلام، أسماء قريبة من الدوائر الضيقة للقرار، ككاتبة مقال القوة الذكية سوزان نوسيل، و هنري كيسنجر وزيبنيو بريجنسكي وجوزيف ناي،ريتشارد بيرل ودونالد رامسفيلد وصامويل هانتينغتون وفرانسيس فوكوياما، وبيرنارد ليويس و ويليام كريسطول…

 

هناك نموذج آخر يثبت نسبية الخلاف بين الحزبين الرئيسيين في صناعة السياسات الأمريكية الكبرى، بعد أزمة البترول 1973،  ظهر بشكل فج نفوذ اللوبي المساند لإسرائيل بقيادة المحافظين الجدد وتعاظم دور منظريه في استعداء العالم العربي خاصة بعد إعلان منظمة الدول العربية المصدرة للنفط (أوابك) قرار حظر تصدير النفط الخام للدول الداعمة لإسرائيل وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.

 

استغل هذا التيار الصدمة التي احدثتها «هزة» حظر البترول العربي في الغرب للترويج لنظريات فلاسفة وكتاب متطرفون مثل ليو شتراوس وبيرنارد لويس وايرفين كريسطول وصامويل هانتينغتون واسماء أخرى تورطت في رسم صور نمطية مخيفة عن العرب والمسلمينلتبرير الدعم اللامحدود لمشاريع إسرائيل المستقبلية، وخلافا للتصور السائد الذي يحصرهم في صقور فريق بوش الابن الذين ظهر نفوذهم بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، فقد استطاع المحافظون الجدد اختراق صفوف كل من الليبيراليين والمحافظين على حد سواء مما يفسر تعاقب الجمهوريين والديمقراطيين على تطبيق توصياتهم بشكل مستمر منذ فترة السبعينيات الى عهد أوباما اعتمادا على ثلاث سبل:

 

  • عن طريق سياسيين من الحزبين الديمقراطي والجمهوري متعاطفين مع هذا التيار أو منتمين إليه عضويا يساهمون بشكل مباشر في اتخاذ القرارات السياسية الكبرى.
  • عبر تأثير مؤسساتهم الإعلامية وشبكات العلاقات العامة الأخطبوطية التابعة لمراكزهم البحثية مثل المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي ومنظمة هيريتدج ومركز مشروع القرن الأمريكي الجديد…
  • من خلال سيطرة خبرائهم على خلايا التفكير ومراكز الدراسات والأبحاث الجيوسياسة المرموقة والتي تعتمد كل من وزارة الدفاع ووزارة الخارجية على تقاريرها الدورية والسنوية (راند كوربوريشن، مركز بروكنجز، مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية، مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، الصندوق الوطني للديموقراطية…).

 

لم يكن يخطر ببال مصممي «القوة الذكية»أن تتعطل دورة التاريخ السياسي الأمريكي الحديثـ التي انبنت على إيقاع حرب كل عشر سنوات تليها عشر سنوات من المسكنات الدبلوماسية ـ بمجرد انقضاء عهد أوباما وحلول عهد ترامب الذي استطاع بدهاء وخلال أربع سنواتفقط إيقاف بوادر حرب كبرى جديدة خارج الحدود بقطع خطوط الاتصال القوية بين المحافظين الجدد وبين البيت الأبيض وجفف منابع تسربها للقرار الرئاسي.

 

إذا استطاع ترامب أن ينجح في الحصول على ولاية ثانية سيكون أمامه حاجز أخير هو أجهزة الاستخبارات الأمريكية المختلفة التي تعد أخطر دائرة تعمل من داخل الدولة تمنعه من استرجاع القرار لصالح المصالح العليا للولايات المتحدة الأمريكيةفإن تمكن من السيطرة على مفاصلها سنكون ربما شهودا على عهد تفكيك أكبر «إمبراطورية ظل» عرفها التاريخ الحديث استخدمت إمكانيات الولايات المتحدة الأمريكية الهائلة وتحايلت على الرأي العام لتحقيق مشاريع ميكيافيلية على حساب مصالح الشعب الأمريكي الحقيقية وصادمتها بمصالح شعوب أخرى.

 

[1]  استخدام مصطلح حكومة الظل لا يدخل في دائرة ما يطلق عليه البعض نظرية المؤامرة. هو مجرد نقل حرفي لمصطلح استخدمه أب البروباكاندا التطبيقية ايدوارد بيرنايز في كتابه “بروباكاندا (1928)” لوصف الاقلية التي تملك القرار في يدها والتي عمل هذا الاخير على تبرير عمله لصالحها عبر تطوير اليات التضليل داخل لجنة كريل ايام الرئيس ويلسون.

[2]  نظرية الدومينو.

[3]الدبلوماسية العامة أو الدبلوماسية الموازية تقوم التأثير كقوة ناعمة باستخدام مجالات الاعلام والثقافة والترفيه، وحقوق الانسان والصحة والتنمية الاقتصادية.

[4] دبلوماسية مبنية على التعاون مع حلفاء من أطراف متعددة.

[5]خلية بحثية (ثينك ثانك) تضم من بين خبرائها اسماء شاركت في رسم شكل العلاقات بين الولايات المتحدة الامريكية والعالم العربي والاسلامي مثل زيبنيو بريجنسكي وهنري كيسنجر والدبلوماسي المخضرم سفير امريكا في باكستان سابقا جوزيف فارلاند بالإضافة الى مدير الاستخبارات الامريكية في مطلع التسعينات دجيمس ووسلي

[6]http://csis.org/files/media/csis/pubs/071106_csissmartpowerreport.pdf

 

الوسوم

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق